الجلطة التي أنارت بصيرتي
«حاليا أعيش في عالم الما بين. لم تنطفئ حياتي بعد, لكنني لم أعد أنتمي للآخرين حولي. إنني كيان غريب في عين أولئك المحيطين بي. وفي أعماقي أطفو غريبة عن ذاتي أيضا»
رغم الأسلوب الحكائي الذي اختطته المؤلفة، إلا أن حكايتها لا تقف عند نهاية تُغلَق فيها الأبواب على سيرة منتهية. وإنما تجد نفسك إزاء آفاق تظل مشرعة للقراءات المتعددة والفهم المتأني. ستجد نفسك حين تصل إلى فصل: (عقلي الأيمن وعقلي الأيسر)، أنك بصدد الولوج إلى مباهج رحبة حول فصّي الدماغ، تريك إمكانات العقل البشري وكينونته الفذة والمعجزة. ستتأنى معك الكاتبة في شرح وظائف الفصّ الأيسر في العقل البشري، وارتباطاته بما يمتّ إلى الحياة الواقعية من صرامة، ونظم مقننة، وحدود فارقة، وقرارات (حصيفة)، جنباً إلى جنب مع الشعور بالأنا المتفاخرة، والاستعداد لإصدار الأحكام والنقد والمحاججات الصلفة…. إلخ. ثم تنقلك إلى (العقل أو الفصّ الأيمن)، حيث تكتشف إنسانيتك الغامرة، متمثلة في التعاطف والتأني، والتصالح مع إيقاع الزمن، والانسجام مع الفنون ووجوهه المبدعة، والخير ومعانيه الرحبة، وحيث الركون إلى الدعة والأمن، والتوق إلى الاندماج في وحدة إنسانية جامعة، تهدف إلى حياة أكثر خيرية وسلاماً.
إن تعرض (جيل تيلور) للجلطة في الفصّ الأيسر، وما أدى إليه من توقف في تفكيره الصارم الحازم، المتأهّب للأحكام والنقد، المتحفّز للصِدام والتصلب في الرأي، الضاجّ بمشاعر الغيرة والتنافس وخيلاء الأنا، هذه السكتة في ضجيج الفصّ الأيسر، أتاحت الفرصة لفصّها الأيمن أن يشعّ ويزدهر بإنسانيته وتعاطفه، وتحليه بالأناة والسكينة، وحدبه على البشرية، وانغماسه فيما وراء مظاهر العالم الواقعي المتسارع الفجّ.
هكذا تستكشف (جيل تيلور) آفاق المخ البشري من خلال الإصابة، وتدخل إلى مناطق بكر حول مكنونات الوعيّ الإنساني، وحول ما يقترحه الدماغ البشري من عوالم ماورائية، أوسع بكثير من العالم المادي الصارم، وقوانينه، ومحددوديته. هكذا تأخذنا المؤلفة في رحلتها الغرائبية، منذ صباح اليوم الذي حدثت فيه الجلطة، متتبعة معنا الأعراض والمشاعر والأجواء التي اختبرتها لحظة بلحظة. ثم تستكمل السياق برحلة العلاج وأوجاعه، فمسيرة الاستشفاء ومنعطفات التغيير في الشخصية والتفكير، ثم مكابدات التعلّم والتأهّل بعد أن عادت –عالمة المخ في جامعة هارفرد- طفلة عاجزة، كأنها لمْ تعلم من بعد علمٍ شيئاً!
قد يرى القاريء هذه الجزئية من سياق الكتاب، مجرد دليل توعوي يعينه على التعرّف على مريض الجلطة وأعراضه وأحواله، وهذا قد يكون صحيحاً إلى حدّ ما، إلا أن المؤلفة تهيب بالقاريء أن يجعل من الكتاب -إلى جانب تلك الفائدة– مرجعاً لمعرفة تحفرُ فيما هو أعمق من ذلك. فنجدها تقف في الفصل الثاني والثالث عند شروحات مبسطة حول التشريح الفيسيولوجي للمخّ، وأنواع الجلطات الدماغية، وكيفية عمل الخلايا العصبية. لقد ترجمتُ عنوانيّ الفصلين المعنيين كالآتي: (شيءٌ من العلم المبسّط ) و(فصّان متباينان)، وهما مبذولان لمن ينشد المزيد من الاطّلاع على آلية عمل المخ في الصحة والمرض. ولكن يمكن تجاوزهما لما هو أكثر تشويقاً وإثارة للفضول، ابتداءً من الفصل التالي: (صباح الجلطة) وما يليه.
«قبل ذلك الصباح المشهود، حين كنتُ أعرف نفسي ككتلة صلبة، كنتُ أملك القدرة لاختبار معنى الفقدان، سواء الفقدان المادي من خلال الموت أو الإصابة، أو الفقدان العاطفي كانكسار القلب.»
وتضيف تيلور: «إذا كنتَ تتساءل كيف يكون شعور من يتعرض لجلطة في المخ، فإن فصل (صباح الجلطة) يجيب على تساؤلك. هنا سآخذك في رحلة غريبة، ترى فيها خطوة إثر خطوة، كيف تتدهور القدرات الإدراكية، مشهودة بعين عالمة. وحين كان النزف يتزايد ويتزايد، كنتُ أعزو الاضمحلال الإدراكي الذي أتعرض له حينها إلى الأساس البيولوجي لتركيبة المخ. وكاختصاصية تشريح، لا بد لي من الاعتراف بأن ما خبرته أثناء مروري بعملية حدوث الجلطة، يفوق ما تعلمته طوال سنوات خبرتي الأكاديمية. في نهاية ذلك الصباح، كان وعيي قد غادرني وانتقل بي إلى مستوى آخر، مستوى أرى فيه نفسي وقد أصبحتُ ممتدة ومتوحدة مع الكون الشاسع. ومنذ ذلك الحين، فهمت أننا قادرون على أن نعيش تجربة روحية (صوفية) أو ماورائية، ذات صلة بالتركيبة التشريحية للدماغ.
إذا كنتَ تعرف أحداً أصيب بجلطة، أو بأي نوع من الإصابة الدماغية، فإن فصل (التعافي) سيكون مصدراً ثميناً للمعرفة. هنا، أنا أقدم رحلة مطّردة نحو التعافي، مشتملة على أكثر من خمسين نصيحة وإشارة إلى الأشياء التي تعوزني (أو لا تعوزني)، للانطلاق نحو الشفاء التام. إن (مقترحات التشافي) قد تم إدراجها في ملحق الكتاب، لتيسير الأمر على المستفيد. وأتمنى أن يتم إشراك الآخرين في هذه المعلومات لتعميم الفائدة.
وأخيراً، فإن كتابي (الجلطة التي أنارت بصيرتي) يحدد ما علمتني إياه تلك الجلطة. في هذا السياق، سوف تدرك أيها القاريء بأن هذا الكتاب ليس عن (الجلطة)، وإنما هو بصورة أصحّ عن البصيرة المتيقظة التي جاءت من وراء هذه الإصابة. هذا الكتاب مكرّس للحديث عن جمال ومرونة العقل البشري، وقدرته الطبيعية على التأقلم مع المتغيرات والسير قدماً في عملية التشافي. في الخلاصة، هي رحلة وعي في الفصّ الأيمن من دماغي، حيث أصبحت حينها مغمورة بسلام داخلي عميق. ثم استعدتُ وعي الفصّ الأيسر من دماغي لاحقاً، لأستطيع أن أساعد الآخرين في الوصول إلى ذات السلام الداخلي من غير أن يمروا بتجربة الجلطة. أتمنى أن يستمتع قارئي بالرحلة.
تقول جيل بوتي تيلور: «إن كتابي (الجلطة التي أنارت بصيرتي)، ورحلة عالمة المخّ التي خضتُها، لم تكن سوى توثيق محكم ومرتب لتلك الرحلة التي سقطتُ خلالها في هوّة بلا معالم، بذهن صامت كالعدم. رحلة أرتني كيف يطفو جوهر كينونتي في مهاد من سلام داخلي عميق. إن هذا الكتاب ليس سوى حياكة متأنية لمعارفي العلمية ممزوجة بتجربتي الشخصية، وبما هدتني إليه بصيرتي الداخلية. وهذه الرواية التوثيقية الصادرة من عالمة مختصة أصيبت ثم شفيت تماماً من نزف حاد في المخ، هي الأولى من نوعها على حدّ علمي. إنني في غاية السعادة أن كلماتي ستصل أخيراً إلى أسماع العالم، وستعود بالفائدة والخير.
كم أنا ممتنة أنني ما أزال على قيد الحياة، أحتفي بأيامي في الدنيا. وقد كنتُ قبلها أمرّ بمعاناة الاستشفاء وألمه، مستذكرة خلال ذلك جميل من التمّ حولي من الناس الممتلئين بحب غامر غير مشروط. لقد ظللت طوال سنوات مخلصة لهذا المشروع التوعوي، مستذكرة –في هذا السياق- تلك المرأة الشابة التي تواصلت معي وهي في حال من الاضطراب، متسائلة لماذا لم تتصل أمها، التي ماتت متأثرة بجلطة في الدماغ، برقم الإسعاف 911؟! ومستذكرة أيضاً –في ذات السياق- ذلك الرجل المسنّ، المثخن بالقلق على زوجة يخشى أنها عانت الكثير في غيبوبة المرض قبل أن تموت. لقد ظللتُ مقيّدة بجهاز الكمبيوتر (وكلبتي المخلصة نيا في حجري)، أتواصل مع أهالي مرضى ومصابين يبحثون عن معالم طريق وبصيص أمل. لقد أصررت على مواصلة العمل في هذا الكتاب من أجل 700,000 مصاب في مجتمعي وعائلاتهم، ممن مروا بمرض الجلطات الدماغية هذا العام. ولو أن شخصاً واحداً فقط قرأ فصل (صباح الجلطة)، وتعرّف على أعراض حدوث الجلطة، واتصل طلباً للمساعدة في أسرع وقت، فإن جهدي هذا سيكون قد أوتي أكُلُه خلال العقد الأخير من السنوات.»